فصل: تفسير الآيات (106- 108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (87- 92):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}
{ولقد آتينا موسى الكتاب وقفَّينا من بعده الرسل} أَيْ: وأرسلنا رسولاً بعد رسول {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} يعني: ما أُوتي من المعجزة {وأيدناه} وقوَّيناه {بِرُوحِ القدس} بجبريل عليه السَّلام، وذلك أنَّه كان قرينه يسير معه حيث سار، يقول: فعلنا بكم كلَّ هذا فما استقمتم؛ لأنَّكم {كلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} ثمَّ تعظَّمتم عن الإِيمان به {ففريقاً كذَّبتم} مثل عيسى ومحمَّدٍ عليهما السَّلام {وفريقاً تقتلون} مثل يحيى وزكريا عليهما السَّلام.
{وقالوا قلوبنا غلفٌ} هو أنَّ اليهود قالوا استهزاءً وإنكاراً لما أتى به محمد عليه السَّلام: قلوبنا غلفٌ عليها غشاوةٌ، فهي لا تعي ولا تفقه ما تقول، وكلُّ شيءٍ في غلافٍ فهو أغلف، وجمعه: غُلْف، ثمَّ أكذبهم الله تعالى فقال: {بل لعنهم الله} أَيْ: أبعدهم من رحمته فطردهم {فقليلاً ما يؤمنون} أَيْ: فبقليلٍ يؤمنون بما في أيديهم. وقال قتادة: {فقليلاً ما يؤمنون}، أَيْ: ما يؤمن منهم إلاَّ قليلٌ، كعبد الله بن سلام.
{ولما جاءهم كتاب} يعني: القرآن {مصدِّق} موافقٌ {لما معهم} {وكانوا} يعني: اليهود {من قبل} نزول الكتاب {يستفتحون} يستنصرون {على الذين كفروا} بمحمد عليه السَّلام وكتابه، ويقولون: اللَّهم انصرنا بالنَّبيِّ المبعوث في آخر الزَّمان {فلما جاءهم ما عرفوا} يعني: الكتاب وبعثة النبيّ {كفروا} ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال: {بئس ما اشتروا به أنفسهم} أَيْ: بئس ما باعوا به حظَّ أنفسهم من الثَّواب بالكفر بالقرآن {بغياً} أَيْ: حسداً {أن ينزل الله} أَيْ: إنزال الله {من فضله على من يشاء من عباده} وذلك أنَّ كفر اليهود لم يكن من شكٍّ والا اشتباهٍ، وإنَّما كان حسداً حيث صارت النُّبوَّة في ولد إسماعيل عليه السَّلام {فباؤوا} فانصرفوا واحتملوا {بغضب} من الله عليهم لأجل تضييعهم التَّوراة {على غضب} لكفرهم بالنَّبي محمَّد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
{وإذا قيل} لليهود {آمنوا بما أنزل الله} بالقرآن {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} يعني: التَّوراة {ويكفرون بما وراءه} بما سواه {وهو الحقُّ} يعني: القرآن {مصدِّقاً لما معهم} موافقاً للتَّوراة، ثمَّ كذَّبَهم الله تعالى في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا بقوله: {فلمَ تقتلون أنبياء الله} أَيْ: أيُّ كتابٍ جُوِّز فيه قتلُ نبيٍّ؟! {إن كنتم مؤمنين} شرطٌ، وجوابه ما قبله، ثمَّ ذكر أنَّهم كفروا بالله تعالى مع وضوح الآيات في زمن موسى عليه السَّلام فقال: {ولقد جاءكم موسى بالبينات} يعني: العصا واليد وفلق البحر {ثمَّ اتخذتم العجل من بعده} إلهاً {وأنتم ظالمون}.

.تفسير الآيات (93- 97):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوَّة واسمعوا} مضى تفسيره، ومعنى: واسمعوا، أَيْ: اقبلوا ما فيه من حلاله وحرامه وأطيعوا {قالوا سمعنا} ما فيه {وعصينا} ما أُمرنا به {وأُشربوا في قلوبهم العجل} وسُقوا حبَّ العجل وخُلطوا بحبِّ العجل حتى اختلط بهم، والمعنى: حُبَّب إليهم العجل {بكفرهم} باعتقادهم التَّشبيه، لأنَّهم طلبوا ما يُتَصَوَّرُ في أنفسهم {قل بئس ما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} هذا تكذيبٌ لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا، وذلك أنَّ آباءَهم ادَّعوا الإِيمان، ثمَّ عبدوا العجل، فقيل لهم: بئس الإيمان إيمانٌ يأمركم بالكفر، والمعنى: لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل، يعني: آباءهم، كذلك أنتم لو كنتم مؤمنين بما أُنزل عليكم ما كذَّبتم محمَّداً.
{قل إنْ كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إنْ كنتم صادقين} كانت اليهود تقول: لن يدخل الجنَّة إلاَّ مَنْ كان هوداً، فقيل لهم: إن كنتم صادقين فتمنَّوا الموت، فإنَّ مَنْ كان لا يشكُّ في أنَّه صائر إلى الجنَّةِ، فالجنَّةُ آثرُ عنده.
{ولن يتمنوه أبداً} لأنَّهم عرفوا أنَّهم كفرةٌ، ولا نصيب لهم في الجنَّة، وهو قوله تعالى: {بما قدَّمت أيديهم} أيْ: بما عملوا من كتمان أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وتغيير نعته {واللَّهُ عليم بالظالمين} فيه معنى التَّهديد.
{ولتجدنهم} يا محمَّدُ، يعني: علماءَ اليهود {أحرص الناس على حياةٍ} لأنَّهم علموا أنَّهم صائرون إلى النَّار إذا ماتوا؛ لما أتوا به في أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {ومن الذين أشركوا} أَيْ: وأحرص من منكري البعث، ومَنْ أنكر البعث أحبَّ طول العمر؛ لأنَّه لا يرجو بعثاً، فاليهود أحرص منهم؛ لأنَّهم علموا ما جنوا فهم يخافون النَّار {يودُّ أحدهم} أَيْ: أحد اليهود {لو يعمَّرُ ألف سنة} لأنَّه يعلم أنَّ آخرته قد فَسَدَتْ عليه {وما هو} أَيْ: وما أحدهم {بمزحزحه} بِمُبْعِدِهِ من {العذاب أن يعمَّر} تعميره.
{قل مَنْ كان عدواً لجبريل} سألت اليهود نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم عن مَنْ يأتيه من الملائكة؟ فقال: جبريل، فقالوا: هو عدوُّنا، ولو أتاك ميكائيل آمنَّا بك، فأنزل الله هذه الآية، والمعنى: قل مَنْ كان عدوَّاً لجبريل فليمت غيظاً {فإنه نزله} أَيْ: نزَّل القرآن {على قلبك بإذن الله} بأمر الله {مصدقاً} موافقاً لما قبله من الكتب {وهدىًَ وبشرى للمؤمنين} ردٌّ على اليهود حين قالوا: إنَّ جبريل ينزل بالحرب والشِّدَّة، فقيل: إنَّه- وإنْ كان ينزل بالحرب والشدَّة على الكافرين- فإنه ينزل بالهدى والبشرى للمؤمنين.

.تفسير الآيات (98- 101):

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
{مَنْ كان عدوَّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنَّ الله عدو للكافرين} أَيْ: مَنْ كان عدوّاً لأحد هؤلاء، فإن اللَّهَ عدوٌّ له؛ لأن عدوَّ الواحدِ عدوُّ الجميع، وعدوُّ محمَّدٍ عدوُّ الله، والواو هاهنا بمعنى أو كقوله: {ومَن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله} الآية. لأنَّ الكافر بالواحد كافرٌ بالكلِّ، وقوله {فإنَّ الله عدوٌ للكافرين} أَيْ: إنَّه تولَّى تلك العداوة بنفسه، وكفى ملائكته ورسله أمر مَنْ عاداهم.
{ولقد أنزلنا إليك آيات بيّنات} دلالاتٍ واضحاتٍ، وهذا جوابٌ لابن صوريا حين قال: يا محمد، ما أُنزل عليك من آيةٍ بيِّنةٍ فَنَتَّبعكَ بها {وما يكفر بها إلاَّ الفاسقون} الخارجون عن أديانهم، واليهود خرجت بالكفر بمحمَّد صلى الله عليه وسلم عن شريعة موسى عليه السَّلام، ولمَّا ذكر محمدٌ صلى الله عليه وسلم لهم ما أخذ الله تعالى عليهم من العهد فيه قال مالك بن الصَّيف: والله ما عُهد إلينا في محمدٍ عهدٌ ولا ميثاق، فأنزل الله تعالى.
{أَوَكُلَّما عاهدوا عهداً} الآية، وقوله: {نبذة فريق منهم} يعني: الذين نقضوه من علمائهم {بل أكثرهم لا يؤمنون} لأنهم من بين ناقضٍ للعهد، وجاحدٍ لنبوَّته معاندٍ له، وقوله: {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب} يعني: علماء اليهود {كتاب الله} يعني التَّوراة {وراء ظهورهم} أَيْ: تركوا العمل به حين كفروا بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن {كأنهم لا يعلمون} أنَّه حقٌّ، وأنَّ ما أتى به صدقٌ، وهذا إخبارٌ عن عنادهم، ثمَّ أخبر أنَّهم رفضوا كتابة واتَّبعوا السِّحر فقال: {واتبعوا} يعني: علماء اليهود.

.تفسير الآيات (102- 105):

{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
{ما تتلوا الشياطين} أَيْ: ما كانت الشَّياطين تُحدِّث وتقصُّ من السِّحر {على ملك سليمان} في عهده وزمان مُلْكه، وذلك أنَّ سليمان عليه السَّلام لما نُزع ملكه دفنت الشَّياطين في خزانته سحراً ونيرنجات، فلمَّأ مات سليمان دلَّت الشياطين عليها النَّاس حتى استخرجوها، وقالوا للنَّاس: إنَّما مَلَكَكُم سليمان بهذا فتعلَّموه، فأقبل بنو إسرائيل على تعلُّمها، ورفضوا كتب أنبيائهم، فبرَّأ الله سليمان عليه السَّلام فقال: {وما كفر سليمان} أَيْ: لم يكن كافراً ساحراً يسحر {ولكنَّ الشياطين كفروا} بالله {يعلمون الناس السحر} يريد: ما كتب لهم الشَّياطين من كُتب السِّحر {وما أنزل على الملكين} أَيْ: ويُعلِّمونهم ما أُنزل عليهما، أَيْ: ما عُلِّما وأُلْهِمَا، وقُذِف في قلوبهما من علم التَّفرقة، وهو رقيةٌ وليس بسحرٍ، وقوله: {وما يعلِّمان} يعني: المَلَكَيْن السِّحر {من أحدٍ} أحداً {حتى يقولا إنما نحن فتنة} ابتلاءٌ واختبارٌ {فلا تكفر} وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ امتحن النَّاس بالملكين في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابلُ تعلُّم السِّحر، فيكفر بتعلُّمه ويؤمن بتركه، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء، وهذا معنى قوله: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} أَيْ: محنةٌ من الله نخبرك أنَّ عمل السِّحر كفرٌ بالله، وننهاك عنه، فإنْ أطعتنا نجوت وإن عصيتنا هلكت، وقوله تعالى {فيتعلمون} أَيْ: فيأتون فيتعلَّمون من الملكين {ما يفرّقون به بين المرء وزوجه} وهو أن يؤخذ كلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه ويُبغَّض كلُّ واحدٍ منهما إلى الآخر {وما هم} أَيْ: السَّحَرة الذين يتعلَّمون السِّحر {بضارين به} بالسِّحر {من أحدٍ} أحداً {إلاَّ بإذن الله} بإرادته كون ذلك، أَيْ: لا يضرُّون بالسِّحر إلاَّ مَنْ أراد الله أن يلحقه ذلك الضَّرر {ويتعلمون ما يضرُّهم} في الآخرة {ولا ينفعهم} في الدُّنيا {ولقد علموا} يعني: اليهود {لمن اشتراه} من اختار السِّحر {ما له في الآخرة من خلاقٍ} من نصيب في الجنة، ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال: {ولبئس ما شروا به أنفسهم} أَيْ: بئس شيءٌ باعوا به حظَّ أنفسهم حيث اختاروا السِّحر ونبذوا كتاب الله {لو كانوا يعلمون} كُنه ما يصير إليه مَنْ يخسر الآخرة من العقاب.
{ولو أنَّهم آمنوا} بمحمَّدٍ عليه السَّلام والقرآن {واتقوا} اليهوديَّة والسِّحر، لأثيبوا ما هو خيرٌ لهم من الكسب بالسِّحر، وهو قوله تعالى: {لمثوبةٌ من عند الله خيرٌ لو كانوا يعلمون}.
{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} كان المسلمون يقولون للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك، وكان هذا بلسان اليهوديَّة سبَّاً قبيحاً، فلمَّا سمعوا هذه الكلمة يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعجبتهم، فكانوا يأتونه ويقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك، وأنزل هذه الآية، وأمرهم أن يقولوا بدل راعنا {انظرنا} أَيْ: انظر إلينا حتى نُفهمك ما نقول {واسمعوا} أيْ: أطيعوا واتركوا هذه الكلمة؛ لأنَّ الطَّاعة تجب بالسَّمع {ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خيرٍ من ربكم} أَيْ: خيرٌ من عند ربكم.
{والله يختص برحمته} يخصُّ بنبوَّته {مَنْ يشاء والله ذو الفضل العظيم}.

.تفسير الآيات (106- 108):

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
{ما نَنْسَخْ من آية أو نُنْسِها} أَيْ: ما نرفع آيةً من جهة النَّسخ بأن نُبطل حكمها، أو بالإِنساءِ لها بأنْ نمحوها عن القلوب {نأت بخير منها} أَيْ: أصلح لمن تُعبِّد بها، وأنفع لهم وأسهل عليهم، وأكثر لأجرهم {أو مثلها} في المنفعة والمثوبة {ألم تعلم أنَّ الله على كلِّ شيءٍ} من النِّسخِ والتَّبديل وغيرهما {قدير}: نزلت هذه الآية حين قال المشركون: إنَّ محمداً يأمر أصحابه بأمرٍ، ثمَّ ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً. ما هذا القرآن إلاَّ كلام محمد، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقولَهُ: {وإذا بدَّلنا آية مكان آيةٍ...} الآية.
{ألم تعلم أنَّ الله له ملك السموات والأرض} يعمل فيهما ما يشاء، وهو أعلم بوجه الصَّلاح فيما يتعبَّدهم به من ناسخٍ ومنسوخٍ {ومالكم من دون الله من ولي} أَيْ: والٍ يلي أمركم ويقوم به {ولا نصير} ينصركم، وفي هذا تحذيرٌ من عذابه إذ لا مانع منه.
{أم تريدون} أَيْ: بل أتريدون {أن تسألوا رسولكم} محمداً صلى الله عليه وسلم {كما سئل موسى من قبل} وذلك أنَّ قريشاً قالوا: يا محمَّدُ، اجعل لنا الصَّفا ذهباً، ووسِّعْ لنا أرض مكَّة، فَنُهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه السَّلام حين قالوا: {أرنا الله جهرة} وذلك أنَّ السُّؤال بعد قيام البراهين كفرٌ، ولذلك قال: {ومن يتبدل الكفر بالإِيمان فقد ضلَّ سواء السبيل} قصده ووسطه.